الاثنين، 2 سبتمبر 2013

قصة قصيرة: تحول

تحوُّل
قصة: أحمد كمال زكي

- شعرة بيضاء!
يقولها صاحبك، فتهتزّ من الداخل بينما تتظاهر بالتَّماسُك أمامه. تقولُ له بنبرةٍ مُغلَّفةٍ بالمرح المُصطنع:
- انزعها ابنة الكلب!
تخضع له تمامًا وهو يحاول نزعها فيفشل، يُكرِّر محاولته حتى يأتيك بها بعد أن ينزع رُبع شعر رأسك الأسود الفحمي الثقيل. رغم تظاهرك بالمرح وعدم الاهتمام، إلا أنَّ شيئًا من هذا لا يستطيع محو المرارة التي تغشاك، والوجيب الذي يجتاح قلبك.
كم من العمر مرَّ، وأنت سادرٌ في أحلامٍ تترى على ذهنك المُشوش فيصرعها الواقع القاسي، الذي يقبض على جيدك ولا يتركك إلا وقد مَصَّ دماءك ودلَّى لسانك ككلبٍ ظامئٍ خمصان؟
هذه الشعرة البيضاء التي تغزو رأسك تُفقدك اتزانك، وتجعلك ريشةً جافةَ العُروق في وجه ريحٍ عاتيةٍ، يُسخِّرها عليك الوقت فتهوي في مكانٍ سحيقٍ شديد القذارة.
والآن.. وأنت جالس أمام المرآة تُصفِّف شعرك، باغتتك في مقدمة رأسك شامتة، تُخرج لك لسانها الباهت، باعثةً في قاع نفسك الحزنى دقاتٍ لا تلبث أن تستحيل إلى صرخاتٍ واخزةٍ مؤلمةٍ. فرَقْتَ شعرك وحاولت النَّيْلَ منها.. لكنَّها راغت منك.
-  "أوَصَلَ الزحف إلى المقدمة؟"
لم تكُن تُدرك لكلامك وارتباكك معنىً مُحددًا.. فما الذي يُرهبك من ظهور الشعر الأبيض؟ أليس هذا شيئًا عاديًّا قد يُضفي عليك قدرًا من الوقار والاحترام؟
تقبض عليها أخيرًا. ملمسها له طعم الوخز بين سبَّابتك وإبهامك. تحاول نزعها بغِلٍّ. تشعر أن شيئًا قارسًا يموج بين أصابعك المرتعشة، تنظر إلى يدك بترقُّبٍ فلا تجد فيها سوى شُعيراتٍ سوداء، ولا أثر لغريمتك التي تُعاود الظهور شامتة منك.
ترتمي بين أحضان ذكريات لها ملمس الحرير. تتذكَّر قول أختك "ماجدة" عندما كانت تصف لزوجها بإعجابٍ شديدٍ جمال شعرك ونعومته حين كُنت صغيرًا، ثم تتحسَّر لأنها لم تصوِّرك وأنت بهذه الهيئة الجميلة: "كان شعره ناعم كالحرير، وكان نازل على جبينه وشكله حلو خالص عشان كدا كانوا في الفيوم مسميينه القط.. لأن شعره ناعم زي القطط".
الآن أنت مهوَّش الشعر، مشوَّش الخاطر، تغزوك صورة "مريم".
كان لطعم يدها عندما تمرِّرها على شعرك المُصفَّف لذَّةً فائقةً، تكاد تشعر بإصبعها وقد استحالت إلى شفاهٍ مُرتعشةٍ تمسح رأسك تقبيلاً، وتحملك على وسادةٍ من الحرير إلى وادٍ مُزرقشٍ بالأحلام والمُنى.
تنزعك الشعرة اللعينة من ذكرياتك الحالمة. باغتك الزَّحف الأبيض. سُرِقت ولن يفيدك شيئًا البكاءُ على العُمر المسكوب. "مريم" تزوجت وأنجبت طفلاً جميلاً، وأنت لا تزال تدور في ساقيتك معصوب العينين.
أربعون عامًا مرَّت دون أن تدري، وكأنك كُنت مُغيبًا عن الدنيا، تجرَّعت كأس الوهم فدار رأسُك، وفقدت اتزانك، ثم اكتشفت في النهاية أنك تسير طول عمرك في خط دائري. لا نهاية لمعاناتك ولا لشقائك.
تشعر أن العيون كلها مصوبة على الشعرة البيضاء. ترتبك كُلَّما عبرتك نظرة مباغتة، فتدفع يدك إليها محاولاً مداراتها، متظاهرًا بتهذيب شعرك.
- "كيف لم أتزوَّج حتى الآن؟"
تتعلَّل بأسبابٍ تافهةٍ لتنصرف مُبكرًا من عملك متحملاً كلام مُديرك الذي يسخر منك. لا ترد عليه سخريته، ولا تنفعل كعادتك أو تثور لكرامتك.. تكتفي فحسب بِرَشِّ الكآبة على وجهك المنقبض، وتُهرق نظرتك الكسيرة على أرضية المكتب فيفهم أنك في مأزق حقيقي. يحاول أن يعرفه، ولمَّا يتأكد من أنك أوصدت قلبك على سِرِّك، يسمح لك بالانصراف صارخًا بأنها آخر مرة تستأذن فيها حتى لو كنت ميتًا.
يلفظك مبنى عملك المُتجهِّم إلى الشارع. تُحاول الذوبان في الأماكن المُزدحمة؛ لتهرب من النظرات القانصة. تشعر أنَّ كلَّ الذين يسيرون في الشارع المُزدحم توقَّفوا فجأة، وصوَّبوا أعينهم ناحية رأسك بينما ضحكاتهم الساخرة تصمُّ أُذنيك. تتعملق الشعرة البيضاء، تملأ رأسك كله، وتبدأ في الزحف على عينيك. لا ترى شيئًا. وزنُها يتضاعف. يضغطك في الأرض وأنت لا تستطيع المقاومة.. تنحني تحت وطأتها، ثم تنبطح. ترقد في استكانةٍ وخنوعٍ. تُحاول طلب النجدة فلا تستطيع. تخرُج صرخاتُك أنَّاتٍ مكتومةً.. بينما الضحكات الساخرة تصبُّ رَصاصَها المُلتهب في أُذنيك المُرتعشتين...

-------------
* القصة نُشرت على موقع مكتبة الإسكندرية لمسابقة القصة القصيرة بتاريخ 1 أكتوبر 2011م، ويمكن قراءاتها على الموقع نفسه من هنا: https://docs.google.com/document/d/1iFB-LMAxbHfmvy_CMs1JLDfR0axn65S3es10B60gc0M/edit?hl=en_GB#

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة هذا الأسبوع