الجمعة، 27 سبتمبر 2013

الشعر الفصيح: وبنتًا تخون..

وبنتًا تخون..        
شعر: أحمد كمال زكي
القصيدة منشورة في مجلة "ثقافات"



أنتَ كالعادةِ
تَسكُبُ الوقتَ رَخِيْصًا
على حافَّةِ الذِّكرى.
تمنحُ الآخرينَ روحَكَ
كَسِيْرَةً
وترحلْ.
ليسَ، مِنكَ، يبقى      
سوى هَمسٍ شريدٍ
لا يملأُ ارتباكَكَ
حين تُعَرِّيكَ الأعينُ.

ليسَ، منكَ، يبقى
سوى صمتٍ عتيقٍ
لا يمنعُ الدَّمعَ من أنْ يَنِزَّ
من سقفِ روحِكَ.

رُوْحُكَ الآن تخرُجُ
إلى فضاءٍ وسيعٍ
ليس فيه عيونٌ واخزاتٌ
تَسْتَبيكَ!

رُوحُكَ الآن تهربُ
إلى صوتٍ بهيجٍ
يَرْفُلُ الشَّوقُ فيهِ
والرَّوعَةُ التي تمتطيهِ
تمتطيكَ!
والمساءاتُ التي تنامُ على تُخُومِكَ
تصحوْ
مَزْهُوَّةً بانسكابِكَ فيها
حين تبدو لك البنتُ
فاردةً على رموشِ الأُفْقِ
قلبًا عنيدًا
وارتباكًا ينشرُ حولَكَ بهجةً ذاهِلةْ.

بهجةُ الوقتِ فوقَ شُجُوْنٍ تَرفُلُ
والوقتَ في روعةِ البنتِ، تَسْكُبُ
دونَ شعورٍ بوخزٍ مُؤرِّقْ.

أنت كالعادةِ
تنسى جيوشَ انهزامِكَ فيها
على حافة الزهو كي لا تحارب.
والبنتُ – كما عودتكَ التقاويمُ -
تخرجُ من حَمْأةِ التوقِ ترنو
إلى همهماتٍ ترفرفُ فوق سحاباتِ شوقٍ
تَـربَّـت بواحاتِ عينيكَ حين استجبتَ لروعة صوتٍ يُراوغ.

تُـراوغُ قلبَكَ بنتٌ
وبنتـًا تراوغْ.

لكَ الوقتُ سَكبًا..
وثقبا فتحتَ بباحةِ حُلمٍ شفيفٍ
فهل أترعتكَ الشظايا الـ تراءتْ لعينيكَ حين التجلي
وهل أضحتِ البنتُ أمنيةً لانبعاثاتكَ العبقريةِ وقتَ ارتباكِ المساءاتِ فوق بقايا الترقب؟

لكَ البنتُ عِشقـًا.
وعِشقٌ بواحة وَجْدِكَ يرفل.
وأنتَ – كما عودتكَ الفصولُ الحزينةُ – تدخلْ
متاهةَ صوتٍ شَجيٍّ.
تُحوِّمُ حول انفعالاتِكَ البربريةِ.

تخونُك بنتٌ
وبنتاً تخون.
وفوق تلال انهزامك تتركُ ماءَ الذهول
وحول ذهولِكَ ترقصُ بنتٌ..
تراودُ وقتـًا سكبتَ على الشوق حيناً
وحينًا تراودُ ورد الشبق..
وأنت بعينَي خلاصِكَ مَيْتٌ
وموتـًا بعينيكَ يزهو
ويمنحُ روحَكَ سمتَ الأرَقْ!
لكَ السمتُ دهرًا
ودهرًا مكثتَ بعيني بُـنَـيَّـةِ شوقٍ عبيطٍ
وأسكنتها سفحَ رُوْحِكَ دومًا
فسَفَحَتْ دِماكَ الخجولَ وألقتْ بقاعِ اندهاشِكَ
موتـًا فموتا!
وبنتـًا، هي الشمسُ، خُنتَ فذابتْ
وصبَّتْ بعينيكَ دمعًا، فدمعا.
وكالوقتِ أنتَ
سُكبتَ رخيصًا
على خَدِّ بنتٍ
رويدًا
رويدا!

----------------------
* القصيدة نُشرت في مجلة "ثقافات" البحرينية.
* لمطالعة النص المنشور اضغط هنا

الأربعاء، 11 سبتمبر 2013

المقالات والدراسات : جي دي موباسان.. تاجر النثر العبقري!

أبو القصة القصيرة الذي مات في مستشفى الأمراض العقلية
جي دي مـوبـاسـان.. تـاجـر الـنـثـر العـبـقـري!

بقلم: أحمد كمال زكي


"كان عليه فقط أن يظهر ويروي قصصه؛ ليحبه على الفور كل إنسان".
بهذه الكلمات التي تقطر حزنًا وألمًا، رثى الكاتب الكبير إميل زولا أحد أبرز كُتَّاب القصة القصيرة في العالم جي دي موباسان، الذي توفي – بعد دراما مأسوية – في السادس من يوليو 1893م، ودفن في مقبرة (مونبارناس).
كانت قصة موباسان الكبرى قد بدأت في شهر أغسطس من عام 1850م.. ففي هذا الشهر ولد الطفل جي في قصر (ميرو مسنيل) بنورماندي الفرنسية، على مسيرة خمسة أميال من ميناء (دييب).. وبعد بضعة أشهر من مولده استأنفت أمه لور هوايتها المفضلة، وهي حب التنقل.. فرحلت إلى مكان آخر في نورماندي، وعندما بلغ السادسة من عمره، انتقلت الأسرة مرة أخرى إلى القصر الأبيض (شاتون بلان) بالقرب من قرية (أتريتا).. وهو أول مكان وعته ذاكرته، وأشار إليه في كثير من قصصه، وفي هذه الفترة بدأت العلاقة الزوجية بين والديه تتزعزع بسبب مغامرات الأب النسائية، وقد بدأ الصغير الذكي يلحظ ذلك، ولم يكن الأمر يخلو من تعليقاته السليطة التي ترضي والدته، ومن الأمثلة الطريفة على ذلك أنه بينما كانت الأسرة تقضي الشتاء في باريس، كتب الصبي إلى والدته يقول: "كنت الأول في الإنشاء، ووعدتني المعلمة بأن تكافئني، ثم أخذتني إلى السيرك ومعنا والدي، ويبدو أنها كانت تكافئه كذلك على شيء لا أعرفه!".
وعندما بلغ جي الثالثة عشرة من عمره، وقع له حادث غَيَّرَ نظرته للحياة، وقد وصفه بقوله: "كان يومًا عاصفًا لا أنساه، يوم كنت ألعب في أحد المتنزهات فشاهدت والديَّ آتيان من بعيد، وتقدمت نحوهما أسترق الخطى كي أفاجئهما.. لكن الفزع سمَّرني في مكاني وأنا أسمع أبي يصيح بوالدتي: إنني في حاجة إلى نقود، وأريدكِ أن توقعي. فأجابته والدتي قائلة في حدة: لن أوقع.. فهذه نقود جي وسوف أحتفظ له بها، ولا أحب أن أراك تبعثرها على الخادمات ونسائك الأخريات بنفس الطريقة التي بعثرت بها أموالك. وكان أبي يرتعد بالغضب كقصبة في الهواء، فاستدار وأطبق على عنق والدتي، ثم أخذ يضربها على وجهها، وعبثا حاولت أن تدرأ ضرباته المتلاحقة المحمومة، وكأنه جُنَّ جنونه فصار يضرب ويضرب حتى هوت على الأرض وهي تخفي وجهها بين ذراعيها، وعندئذ لوى ذراعها وعاد يضربها مرة أخرى.. وخُيل إلىَّ أن نهاية العالم قد حلَّتْ، وأن القوانين والشرائع الخالدة قد تبدلت وتغيرت، ومنذ ذلك اليوم اختلف كل شيء في عيني، ولمحت الجانب الآخر للأشياء.. الجانب السيء، ولم أرَ منذ ذلك الحين للجانب الآخر أثرًا!".
ويبدو بجلاءٍ أن هذا الحادث الذي حُفر في ذهن موباسان قد انعكس على رؤاه القصصية.. فقصصه واقعية وكثيرًا ما تعكس موقفه التهكمي اللاذع المتشائم تجاه الناس، وتعاطفه الجلي مع الفقراء والمنبوذين في المجتمع.
غرام أمه بالأدب
كان أبوه أرستقراطيًّا بالنشأة.. فهو سليل أسرة أرستقراطية عريقة أفلست.. وأمه كانت من العامة، لكنها كانت تعيش على أمل أن يعيد ابنها تشكيل حياتها بعد أن فقدت أخاها الذي كانت تطمح لأن يكون أديبًا مشهورًا.. كان شقيقها يدعى ألفريد، وكان مغرمًا بدراسة الأدب والفلسفة، وقد تذوقت الآداب القديمة والحديثة على يديه وعلى يدي صديق له من كبار الأدباء هو جوستاف فلوبير.. وبعد رحيل أخيها المفاجئ، كانت تراسل فلوبير الذي حصل على سمعة سيئة، ومجدٍ أدبي خالدٍ بعد أن اُضطهدت قصته (مدام بوفاري) سنة 1857م. وقد كتبت له لور تصف ابنيها قائلة: "لي طفلان أحبهما من كل قلبي وروحي، وآمل أن يمنحاني أيامًا أهنأ وأسعد، أصغرهما ليس أكثر من مزارع صغير بادي الغباء، وأكبرهما شاب جاد في الخامسة عشرة، رأى وأدرك أشياء كثيرة فنضج قبل سنه، وسوف يذكرك بخاله ألفريد الذي يشبهه في أمور كثيرة، حتى في حبه للأدب، ولذلك فأنا واثقة أنك سوف تحبه".
لقد كانت أمه تريد أن يعوضها ابنها عن أخيها الذي فقدته، خاصة أنه يشبهه في الشكل والاهتمام بالأدب، وكانت تريد لابنها أن يكون شيئا مذكورا؛ لذلك دفعته دفعًا إلى الدراسة.. لكنه كثيرًا ما كان يهرب إلى متع الحياة العريضة، فكان يتسكع على شاطئ البحر مخالطًا الصيادين والبحارة، أو في السهول مشاركًا الفلاحين مباهجهم وحلقات سمرهم.
كانت أمه قد ألحقته بالكنيسة، وأخذت تقرأ له مسرحيات شكسبير، ولما بلغ الثالثة عشرة، وحان وقت تلقي المزيد من التعليم، أرسلته إلى معهد ديني؛ حيث كانت "الموضة" وقتها هي إرسال أبناء النبلاء والأرستقراطيين إلى مثل ذلك المعهد الذي تتميز نظمه بصرامة "إسبرطة"، ورقة "أثينا".. لكن جي طُرد من المعهد لسوء سلوكه في نهاية السنة السابقة لتقدمه لامتحان البكالوريا، فقررت الأم إلحاقه بمدرسة في "روان"، وما إن حصل على البكالوريا وبدأ يتلقى دروسه في القانون حتى شبت الحرب بين فرنسا وبروسيا، فترك الدراسة والتحق بقسم الإمدادات بالجيش الفرنسي، وكان يقضي أوقات فراغه في القراءة وكتابة القصائد الغزلية.. ثم انتقل إلى باريس والتحق بوظيفة كتابية بسيطة في إدارة المستخدمين بوزارة التربية والتعليم، وعاش في باريس وحيدًا يقرأ ويكتب ويتسكع في الشوارع ليلاً، أو يذهب إلى نهر السين الذي يذكره بالبحر النورماندي، وكلما تقدمت به الأعوام، تضاعف شعور جي بالهم والاكتئاب، وازدادت نظرته إلى حياته تجهمًا، ولعل أثقل ما كان يؤرقه أن يبقى في المكاتب منحنيًا على الدفاتر والأوراق، وهو الذي اعتاد الهواء الطلق والفيافي الواسعة، وهذا ما جعله يتخذ من الكتابة الأدبية حرفة يتحرر بها من العمل في المصالح الحكومية ويكسب بها قوته، ولذلك فإنه كثيرًا ما أطلق على نفسه لقب "تاجر النثر".
الحواري المخلص
و جاءت اللحظة الفارقة، عندما تعرف موباسان إلى فلوبير.. هذا الكاتب الذائع الصيت، الذي كان يُعرف بأنه أشد الرجال عزلة في أورُبَّا كلها، ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن الأقدار كانت تخطط لجمعهما معًا.. فقد كان فلوبير يبحث عن حواري مخلص، وكان جي – الذي انحاز إلى الأدب تمامًا – يبحث هو الآخر عن معلمٍ محنك يقود خطاه في عالم الأدب المعقد، حتى أنه ظل سبع سنوات يذهب إليه أيام الأحد حاملاً قصائده وقصصه ومسرحياته. يقول موباسان عن فترة تلمذته هذه، في مقدمته لرواية (بيير وجان) الصادرة عام 1888م: "كان فلوبير يبدي اهتمامًا بي، فوجدت الجرأة لأن أعرض عليه بعض المقالات، وبعد أن قرأها قال لي: لست أدري إن كانت لديك الموهبة أم لا! فما قدمته لي يعكس بعض ملامح الذكاء، ولكن لا تنسَ هذا يا فتى.. الموهبة – كما يقول بونون – ليست سوى الصبر الطويل. واظب."، ويستطرد: "وواظبت، وغالبًا ما كنت أزوره مدركا أنني وقفت في نفسه موقفا حسنا؛ لأنه أخذ يدعوني بحواريه، وطوال سبع سنوات كنت أكتب شعرا وقصصا وروايات قصيرة، بل كتبت أيضا مسرحية فظيعة، ولم يُكتب لأي منها الحياة. لقد قرأها الأستاذ جميعا، ثم أبدى ملاحظاته النقدية، وكان يقول: إذا كانت لديك أصالة فعليك أن تُظهرها، وإذا لم تكن لديك فينبغي أن تخلقها، وما الموهبة سوى صبر طويل.. إنها تتضمن النظر إلى كل شيء يسعى المرء إلى وصفه بدقة كافية وبوعي كافٍ، ففي كل شيء توجد عناصر لم تكتشف بعد؛ لأننا اعتدنا أن نستعمل أعيننا فقط في نطاق ذاكرة الناس الذين سبقونا في النظر إلى ذلك الشيء.. إن أبسط الأشياء تنطوي على نقطة ما مجهولة فيها، فلنبحث عن تلك النقطة، فلأجل أن نصف نارا تشتعل أو شجرة في حقل، ينبغي لنا أن نقف أمام تلك النار أو تلك الشجرة، إلى أن تكف عن أن تبدو كأي نار أو شجرة أخرى!".
بعد ذلك تعرَّف موباسان إلى الأديب الكبير إميل زولا، الذي كتب عنه يقول: "عرفت موباسان في صالون فلوبير الأدبي حوالي سنة 1874 بعد تخرجه مباشرة في الكلية، وكان يتردد على أستاذه كل أسبوع مرة ليقرأ له ما كتب فيصحح له فلوبير عباراته ويسدد خطاه، وكان جي في حضرتنا قليل الكلام، يصغي بذكاء ويقبس لمستقبل حياته، وسرعان ما غدونا أصدقاء بدورنا لهذا الشاب الألمعي، وعجبنا لقصصه بقدر ما أعجبتنا، وكان شابا متوسط القامة، قوي البنيان، مفتول الذراعين، وكان معتدا بنفسه، وراوية لأعجب القصص عن النساء، مما كان يجعل فلوبير يضج بالضحك من نوادره وحكاياته حتى يؤلمه جنباه!".
وفي 25 من نوفمبر سنة 1879 كتب فلوبير إلى مدام جولييت آدم رئيسة تحرير مجلة (لانوفيل ريفي) يقول: "... اسمحي لي أن أرسل إليكِ بنفس البريد مقطوعة من الشعر أعتبرها جديرة بمجلتك، وأعتقد أن كاتبها جي دي موباسان له مستقبل كبير في عالم الأدب، وأنا أحبه غاية الحب لأنه أيضا ابن أخت صديقي الراحل العزيز ألفريد لو بواتيفان ويشبهه كل الشبه، وأكون شاكرا لو نشرتِ له هذه القصيدة الصغيرة، وقد ظهرت لكاتبها مسرحية في هذا الشتاء اسمها (تاريخ الأزمنة القديمة) ولقيت نجاحا ملحوظا يبشر بمستقبل كبير".
وسرعان ما كتب موباسان قصته – الطويلة – القصيرة "كرة الشحم".. وعندما قرأها فلوبير أرسل إلى جي يهنئه عليها، ويعتبرها جوهرة من الإنتاج الخالد. وفي 25 من أبريل 1880 ظهر ديوان الشعر الأول – والأخير– له، وقد أهداه إلى أستاذه وصديقه الروحي فلوبير، لكنه لم يهنأ به؛ إذ داهمته الأحزان بعد أحد عشر يوما من صدور الديوان؛ فقد مات جوستاف فلوبير بالسكتة القلبية.. لكن موباسان لم يستسلم لأحزانه، وانغمس أكثر في عالمه الإبداعي، وبعد ثلاث سنوات، وتحديدا في 27 من فبراير 1883 بدأت صحيفة (جيل بلان) تنشر تباعا قصته الطويلة (حياة امرأة) لتنتهي حلقاتها في 6 من أبريل في السنة نفسها، أما سنة 1884 فتمتاز بزاد وفير من مؤلفات جي القصصية، ففيها كتب (بل – آمي) أو حبيب القلب، تلك القصة التي أثارت ضجة الصحافة في باريس؛ إذ اعتبرتها تشهيرا بالصحفيين، الذين شبههم بالعاهرات ووصفهم بأنهم يتردون في الرذائل، ويبتزون المال بالتهديد، وينسبون لأنفسهم أحيانا ما يكتبه لهم الغير، ويفاخرون به سائر الكتاب والقراء!
اختراع القصة القصيرة!
ولعل موباسان هو أول من كتب القصة القصيرة في شكلها الحديث المتكامل. كتبها قبله كثيرون بالطبع منهم مارك توين وإدجار آلان بو، لكنهما لم يهتديا إلى ما اهتدى إليه موباسان من أن القصة القصيرة لا تحتاج إلى الوقائع الخطيرة والخيال الخارق.. بل يكفي الكاتب أن يتأمل في الأحداث العادية، والأفراد العاديين، لكي يفسر الحياة ويعبر عن خفاياها من خلال موقف أو لحظة من لحظاتها.
يقول د. رشاد رشدي عن قصصه: "لقد جاءت قصص موباسان مختلفة عن كل ما سبقها من قصص حتى أن الناس رفضوا أن يعترفوا بها في بادئ الأمر كقصص قصيرة، ولكن الأيام ما لبثت أن غيرت هذا الرأي، حتى أن أحد كبار النقاد كتب بعد موت موباسان بأعوام قليلة: (إن القصة القصيرة هي موباسان، وموباسان هو القصة القصيرة!).. وهكذا سجل جي دي موباسان القصة القصيرة باسمه، كما يُسجل المخترعون اختراعاتهم، فسارت من بعده على الشكل الذي رسمه لها!"
لقد أصبح موباسان من أشهر كتاب القصة، ليس في فرنسا وحدها، بل في العالم كله.. حتى أن الرسام الهولندي الشهير فان جوخ كتب لأخيه يقول: "إن خير ما أعمله هنا أن أرسم النساء والأطفال.. لكن لن يسعدني كل السعادة إلا أن يولد بين الرسامين من يضارع جي دي موباسان بين الكتاب".
ولقد بدأت نهاية موباسان المأسوية في الثامن من ديسمبر 1891 عندما دخل في صراع مرير مع المرض القاسي، ويمكن أن ندرك إلى أي مدى كان موباسان يعاني، من الرسالة التي كتبها إلى أحد أطبائه يقول فيها: "... إن جسمي كله – لحمي وجلدي – قد نُقع في ملح، فلم يعد لي لعاب لأن الملح جففه تماما. أظن أن هذه هي بداية النهاية. إن رأسي يؤلمني ألما مبرحا يجعلني أضغطه بين يدي فأشعر بأنه رأس ميت!".
وفي رسالة أخرى لصديقه كازاليس يقول: "... لقد ضعت تماما. إنني أموت! لقد غُسلت مسالك أنفي بمياه مالحة نفذت إلى مخي ونخرت فيه، فأخذ يسيل كل ليلة خلال أنفي وفمي، إنني مجنون، ورأسي يهذي.. فوداعا يا صديقي لأنك لن تراني مرة أخرى!".
كان واضحا تماما أن إرهاصات موت مبدع مدهش قد بدأت بالفعل، وليس غريبا أن يكون أول مَنْ يشعر بهذا هو المبدع العبقري نفسه كما يتضح من رسائله في هذه الفترة، أما الآخرون فقد تأكد هذا عندهم بعد أن نُقل إلى باريس في قميص المجانين، ولم تقوَ أمه على زيارته خشية أن تنهار عندما تراه في هذه الحال، وكل يوم يمر، كانت حاله تزداد سوءً، إلى أن وافته المنية يوم السادس من يوليو 1893م.. ليرحل عن الدنيا كاتب فذ كان قد شغل مكانة كبيرة في قلوب الفرنسيين، وظلت الصحف ترثيه وتشيد بمؤلفاته.
رحل إذن جي دي موباسان بشكل مؤثر – كقصصه – بعد أن قاسى من المرض الشرس الذي ألقاه في عالم الجنون، ثم سلمه ببرود إلى الموت.
رحل تاركا نحو مئتين وخمسين قصة قصيرة، وست روايات، وديوان شعر وحيد، ومازالت هذه الأعمال تُترجم إلى كل لغات العالم وتقرأ حتى الآن.. وقد كُتب معظمها بين عامي 1880 و1890 ومن أهمها: حياة امرأة، الصديقة الجميلة، بيتر وجون، إيفيت، الغوريلا، كرة الشحم، العقد الماسي، المظلة، قطعة الخيط.. وتتميز روايات موباسان بالخصائص نفسها التي تتميز بها قصصه القصيرة من وضوح وبساطة وواقعية سحرية تعكس رؤيته الخاصة للحياة وللبشر.
وفي مشهد مشبَّع بالشجن، حمل الهواء الذي كان يتنفسه موباسان صوت مبدع عظيم آخر هو إميل زولا.. كان الصوت متهدجا، ينوء بالصدمة، ويختلط بالدموع الدافئة، وهو يقول: "ما كان عليه إلا أن يظهر ويروي قصصه، فإذا به يحظى بحب الجميع، لقد تقبل القراء كل ما كتب؛ إذ أشبع كل الطاقات الفكرية، والأحاسيس الإنسانية، وتجسدت أمامنا الموهبة التي لم تتخلَّ أبدًا عن أقل قدر من سموها، ومع ذلك كانت تستحوذ على إعجاب وتعاطف جمهور القراء على الفور".
وكانت كلمات زولا هي مسك الختام لحياة حافلة بالإبداع المتوهج، والعذاب الأليم.. وكانت بمثابة كلمات النهاية لقصة قصيرة رائعة، اسمها جي دي موباسان.. بدأت في شهر أغسطس 1850 وانتهت في شهر يوليو 1893م.

أهم المراجع:       
* محمد بدر الدين خليل - جي دي موباسان: قصة حياته ومأساته - مقدمة عن حياة موباسان وردت في ترجمة روايته "حياة امرأة" – سلسة كتابي الأدبية – القاهرة، بدون تاريخ.
* عباس خضر - القصة القصيرة في مصر – الدار القومية للطباعة والنشر - القاهرة 1966 – ص 77 : 79.
* يوسف الشاروني - أدباء من الشاطئ الآخر – الهيئة المصرية العامة للكتاب - مكتبة الأسرة - القاهرة 2002- ص 138 : 140.
* أنور جعفــر - حكواتي فرنسا – مجلة "الكويت" - العدد 107 - الكويت - أغسطس 1993م – ص ص 39 ، 40.

* مجموعة مؤلفين - الموسوعة العربية العالمية - ط 2 – مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع - الرياض 1999م – ص ص 548، 549.

الاثنين، 9 سبتمبر 2013

شعر فصيح: كائنٌ أسودُ القلبِ والرُّوح

كائنٌ أسودُ القلبِ والرُّوح
شعر: أحمد كمال زكي


يَنْعَسُ
في كُلِّ يَوْمٍ ولَيْلٍ، يَنْعَسْ
ولا يَرْتَجِيْ من نُعَاسِهِ نَوْمًا
بَلِ الهَمَّ يَرْجُوْ؛
لِيَصْحُوَ صُبْحًا فَيَشْكُو ويَشْكُو
ويُلْقِيَ فَوْقَ السَّوَادِ بِقَلْبِهْ
سَوَادًا جَدِيْدًا!
هُوَ الآنَ يَغْفُوْ
فَيَبْدَأُ سَكْبَ السَّوَادِ بِرُوْحِهْ
وتَرْجُفُ أعْضَاؤُهُ بَهْجَةً
بِهَمٍّ جَدِيدْ!
وتَلْبِسُ كُلَّ السَّوَادِ لَدَيْهَا
وتَرْقُصُ في كُلِّ عِرْقٍ دِمَاؤُهْ
وتَرْفَعُ رَايَاتِ حَفْلٍ كَرِيْهٍ
وحِقْدٍ عَتِيدْ!
هُوَ الآنَ يَغْطَسُ في قَاعِ حُلْمٍ
فَيَفْزَعُ – مِنْ وَجْهِهِ – الحُلْمُ، يَرْجُفْ
ويَهْرُبُ مِنْ رُوْحِهِ الآسِنَةْ
فَيَحْدِجُ حُلْمَهْ
ويَرْشَحُ مِنْ قَاعِ رُوْحِهِ غَيْظٌ
ويَقْفِزُ مِنْ قَلْبِهِ الصَّلْدِ مَسْخٌ
يُلاصِقُ وَجْهَهْ
وحِيْنَ يَبُصُّ لِمِرْآةِ نَفْسِهْ
يُرِيْحُهُ مَسْخُهْ
فَيَغْفُوْ،
ويَرْقُدْ،
ويَهْجَعْ،
ويَسْبَخْ !
وحِيْنَ يَقُوْمُ
يَرُشُّ عَلَى وَجْهِهِ المَسْخِ عِطْرًا
يَفُوْحُ بِنَتَنٍ كَئِيْبٍ
فَيَبْسُمْ!
وقَبْلَ الخُرُوْجِ إلى النَّاسِ دَوْمًا
يُرَكِّبُ وَجْهًا / قِنَاعًا يُدَارِيْ
بَشَاعَةَ نَفْسِهْ
وغِلاًّ وحِقْدًا تَمَلَّكَ رُوْحَهْ!
ويَخْطُرُ زَهْوًا بِصَفْوٍ سَرَابٍ
ورُوْحٍ خَرَابٍ
وقَلْبٍ يَبَابٍ
ونَفْسٍ تَعَرَّتْ فَبَانَ لِنُظَّارِهَا أَلْفُ نَابٍ ونَابْ!
هو الآن يَهْذِيْ
ويُخْفِي البَشَاعَةَ عَن نَاظِرِيْهِ
فَيَكْذِبْ
ويَفْتِنْ
يُدَاهِنْ، يُنَافِقْ، يُمَالِئْ، ويَمْلأْ
عُقُوْلاً بِوَهْمٍ وكِذْبٍ وحِقْدٍ
ويُطْلِقُ ضِحْكًا كَئِيْبًا ويَظْلِمْ
ويَأكُلُ سُحْتًا
ويَشْرَبُ مُقْتًا
ويَنْفُثُ في وَجْهِ مَنْ يَلْتَقِيْهِ سُمُوْمًا وبُغْضًا!
وبَعْدَ قَلِيْلٍ
تَعُمُّ الهُمُومْ
وتَطْفُو الكآبَةُ فَوْقَ الوُجُوهْ
ويَطْفَحُ كُلُّ المَكَانِ سَوَادًا!
فَيَضْحَكْ
ويَضْحَكْ
ومِنْ ضِحْكِهِ المُرِّ يَنْبُتُ قَرَفٌ
يَحُوْطُ المَكَانَ بِهَمٍّ مُقِيْمٍ
ونَحْسٍ سَقِيْمٍ
فَتَهْرُبُ مِنْ ضِحْكِهِ الكَائِنَاتْ
ويَبْقَى سَعِيْدًا
بِنَتَنٍ يَفُوْحُ بَأرْجَاءِ نَفْسِهْ
ولَهَبٍ تَأَجَّجَ في قَاعِ سَمْتِهْ
فَأَحْرَقَ كُلَّ البَيَاضِ القَدِيْمِ
ولَمْ يَبْقَ في قَلْبِهِ المَسْخِ إِلاَّ
سَوَادُ السَّوَادْ!
--------------------

* القصيدة نُشرت بملحق الأربعاء الصادر مع جريدة "المدينة" السعودية، يوم الأربعاء 6 أغسطس 2008م.

الأربعاء، 4 سبتمبر 2013

قصة قصيرة : اختناق النور

اختناق النور
قصة: أحمد كمال زكي


ازداد عدد الأطفال.. وتعالى صياحهم الذي ذاب في تلك الجلبة والفرقعة الناتجة عن دَقِّ عُلب المِسْلي الفارغة، وقِطع صفيح صغيرة بعصي دقيقة يقبضون عليها بأطراف أصابعهم اللينة. كانوا يصيحون بانتظام، وبكلمات ولحن موروثين:
"يا بنات الحور.. سـيـبـوا القمر..."
كانت أمي تحكي لنا حواديتها، ونحن في طور الطفولة.. كانت تأخذنا معها إلى عالمها الأسطوري من خلال حكاياتها الجميلة.. ست الحسن والجمال.. سندريللا.. أمنا الغولة.. وغيرها من الحكايات المثيرة. كانت أمي بمثابة شهرزاد.. بقدر ما كانت حكاياتها تثيرنا، وتُفزعنا أحيانا، بقدر ما كنا نُلح عليها كي تعود فتحكيها لنا مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة.. وإلى ما لا نهاية.
كان الملل لا يجرؤ على الاقتراب منا ما دامت أمي تأخذنا معها أخذا إلى عالمها الممتع.
"القمر مخنوق.. و ما عندناش خبر.."
عندما سألت أمي عن حكاية هذا القمر المخنوق.. قالت بأسطوريتها المعهودة:
- بنات الحور يُحطن به من كل اتجاه حتى يكاد يختنق.. فنوره لا يكاد يصل الأرض.. لا يؤدي رسالته.. كيف لا يختنق إذن؟ وصياح الأطفال وجلَبتهم يفكان عنه الحصار.
كان لكل شيء عند أمي تفسير تفوح منه رائحة الأسطورة.. وكنت أحب أن أسألها عن أشياء كثيرة لأشم تلك الرائحة المحببة إلى نفسي.
"القمر مخنوق.. و ما عندناش خبر.."
تُــرى.. هل لو عندنا خبر مُسبق، كان سيتغير شيء.. كأن لا يختنق القمر مثلا؟! سؤال سخيف تفوح منه رائحة واقعية فجة، تزكم الأنوف.. أنَّى هذه الرائحة من رائحة حكايات أمي الرائعة؟!
كان القمر حزينا، وقد انزوى في زاوية من السماء، شاحب الوجه، تبدو عليه آثار الإرهاق، وكأنه خارجٌ لتوه من معركة مرهقة، أو ناجٍ لتوه من محاولة لخنقه. كان الأطفال لا يزالون في صياحهم المُنغم..
"يا بنات الحور.. سيبوا القمر.."
- ولكن.. لماذا بنات الحور بالذات يا أمي؟
يأتيني صوتها دافئا يدغدغ أذني:
- لعلهن يهمن به حباً.
- وهل مَنْ يُحب شخصا يسعى لخنقه؟
- أحيانا.
"القمر مخنوق.. وما عندناش خبر.."
بدا وكأن القمر يسترد نُضرته وتألقه. نصف ساعة كادت تقضي على حياته ويموت مخنوقا بعشقه. تساءلت وقد اكتسى صوتي بأسى يمتزج بحيرة:
- وماذا لو مات القمر..؟
لمعت عينا أمي، ورفَّت ابتسامة حانية على شفتيها قبل أن تنطق:
- سيولد قمر جديد، يتابع سيرة مَنْ سبقه، ويؤدي دوره. لا تخف يا بني.. لن يموت النور أبدا.. حتى لو اختنق لفترات.. فلن يموت أبدا..
استعرت منها ابتسامتها الحانية، وألصقتها بوجهي.. ثم اتجهت إلى فراشي.. وتلك الرائحة الرائعة لا تفارق روحي.
كان القمر قد استعاد تألقه، وعاد إلى صدر السماء.. ليضيئها.

---------------
* القصة نُشرت في جريدة "الأهرام المسائي"، ومجموعة "وخز كان"، وعدد كبير من المواقع والمنتديات الإلكترونية.

المواضيع الأكثر مشاهدة هذا الأسبوع