اختناق النور
قصة: أحمد كمال زكي
ازداد عدد الأطفال.. وتعالى صياحهم الذي ذاب في تلك الجلبة والفرقعة الناتجة عن دَقِّ عُلب المِسْلي الفارغة، وقِطع صفيح صغيرة بعصي دقيقة يقبضون عليها بأطراف أصابعهم اللينة. كانوا يصيحون
بانتظام، وبكلمات ولحن موروثين:
"يا بنات الحور.. سـيـبـوا القمر..."
كانت أمي تحكي لنا حواديتها، ونحن في طور الطفولة.. كانت تأخذنا معها إلى عالمها الأسطوري من خلال حكاياتها الجميلة..
ست الحسن والجمال.. سندريللا.. أمنا الغولة.. وغيرها من الحكايات المثيرة. كانت أمي
بمثابة شهرزاد.. بقدر ما كانت حكاياتها تثيرنا، وتُفزعنا أحيانا، بقدر ما كنا نُلح
عليها كي تعود فتحكيها لنا مرة ثانية، وثالثة، وعاشرة.. وإلى ما لا نهاية.
كان
الملل لا يجرؤ على الاقتراب منا ما دامت أمي تأخذنا معها أخذا إلى عالمها الممتع.
"القمر مخنوق.. و ما عندناش خبر.."
عندما سألت أمي عن حكاية
هذا القمر المخنوق.. قالت بأسطوريتها المعهودة:
- بنات الحور يُحطن
به من كل اتجاه حتى يكاد يختنق.. فنوره لا يكاد يصل الأرض.. لا يؤدي رسالته.. كيف
لا يختنق إذن؟ وصياح الأطفال وجلَبتهم يفكان عنه الحصار.
كان لكل شيء عند أمي تفسير
تفوح منه رائحة الأسطورة.. وكنت أحب أن أسألها عن أشياء كثيرة لأشم تلك الرائحة المحببة
إلى نفسي.
"القمر مخنوق.. و ما عندناش خبر.."
تُــرى.. هل لو عندنا خبر
مُسبق، كان سيتغير شيء.. كأن لا يختنق القمر مثلا؟! سؤال سخيف تفوح منه رائحة واقعية
فجة، تزكم الأنوف.. أنَّى هذه الرائحة من رائحة حكايات أمي الرائعة؟!
كان القمر حزينا، وقد
انزوى في زاوية من السماء، شاحب الوجه، تبدو عليه آثار الإرهاق، وكأنه خارجٌ لتوه
من معركة مرهقة، أو ناجٍ لتوه من محاولة لخنقه. كان الأطفال لا يزالون في صياحهم المُنغم..
"يا بنات الحور.. سيبوا القمر.."
- ولكن.. لماذا بنات
الحور بالذات يا أمي؟
يأتيني صوتها دافئا يدغدغ
أذني:
- لعلهن يهمن به حباً.
- وهل مَنْ يُحب شخصا
يسعى لخنقه؟
- أحيانا.
"القمر مخنوق.. وما عندناش خبر.."
بدا وكأن القمر يسترد
نُضرته وتألقه. نصف ساعة كادت تقضي على حياته ويموت مخنوقا بعشقه. تساءلت وقد اكتسى
صوتي بأسى يمتزج بحيرة:
- وماذا لو مات القمر..؟
لمعت عينا أمي، ورفَّت
ابتسامة حانية على شفتيها قبل أن تنطق:
- سيولد قمر جديد،
يتابع سيرة مَنْ سبقه، ويؤدي دوره. لا تخف يا بني.. لن يموت النور أبدا.. حتى لو
اختنق لفترات.. فلن يموت أبدا..
استعرت منها ابتسامتها
الحانية، وألصقتها بوجهي.. ثم اتجهت إلى فراشي.. وتلك الرائحة الرائعة لا تفارق
روحي.
كان القمر قد استعاد تألقه، وعاد إلى صدر السماء.. ليضيئها.
---------------
* القصة نُشرت في جريدة "الأهرام المسائي"، ومجموعة "وخز كان"، وعدد كبير من المواقع والمنتديات الإلكترونية.
---------------
* القصة نُشرت في جريدة "الأهرام المسائي"، ومجموعة "وخز كان"، وعدد كبير من المواقع والمنتديات الإلكترونية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق